فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وما جعلناهم جَسَدًا} بيان لكون الرسل عليهم السلام اسوة لسائر أفراد الجنس في أحكام الطبيعة البشرية والجسد على ما في القاموس جسم الإنس والجن والملك؛ وقال الراغب: هو كالجسم إلا أنه أخص منه، قال الخليل: لا يقال الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، وأيضًا فإن الجسد يقال لماله لون والجسم لما لا يبين له لون كالهواء والماء، وقوله تعالى: {وما جعلناهم جَسَدًا}..إلخ. يشهد لما قاله الخليل انتهى، وقيل: هو جسم ذو تركيب ظاهره أنه أعم من الحيوان ومنهم خصه به؛ وقال بعضهم: هو في الأصل مصدر جسد الدم يجسد أن التصق وأطلق على الجسم المركب لأنه ذو أجزاء ملتصف بعضها ببعض، ثم الظاهر أن الذي يقول بتخصيصه بحيث لا يشمل غير العاقل من الحيوان مثلًا غاية ما يدعى أن ذلك بحسب أصل وضعه ولا يقول بعدم جواز تعميمه بعد ذلاك فلا تغفل، ونصبه إما على أنه مفعول ثان للجعل، والمراد تصييره كذلك إبداء على طريقة قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل، وأما حال من الضمير والجعل ابداعي وأفراده لا عادة الجنس الشامل للكثير أو لأنه في الأصل على ما سمعت مصدر وهو يطلق على الواحد المذكر وغيره، وقيل: لإرادة الاستغراق الإفرادي في الضمير أي جعلنا كل واحد منهم؛ وقيل: هو بتقدير مضاف أي ذوي جسد، وفي التسهيل أنه يستغنى بتثنية المضاف وجمه عن تثنية المضاف إليه وجمعه في الاعلام وكذا ما ليس فيه لبس من أسماء الأجناس.
وقوله تعالى: {لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} صفة {جَسَدًا} أي وما جعلناهم جسدا مستغنيًا عن الغذاء بل محتاجًا إليه {وما كَانُواْ خالدين} أي باقين ابدا، وجوز أن يكون الخلود بمعنى المكث المديد، واختير الأول لأن الجملة مقررة لما قبلها من كون الرسل السالفة عليهم الصلاة والسلام بشرًّا لا ملائكة كما يقتضيه اعتقاد المشركين الفاسد وزعمهم الكاسد، والظاهر هم يعتقدون أيضًا في الملائكة عليهم السلام الأبدية كاعتقاد الفلاسفة فيهم ذلك إلا أنهم يسمونهم عقولًا مجردة، وحاصل المعنى جعلناهم أجسادًا متغذية صائرة إلى الموت بالآخرة حسب آجالهم ولم نجعلهم ملائكة لا يتغذون ولا يموتون حسبما تزعمون، وقيل: الجملة رد على قولهم {مالِ هذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطعام} [الفرقان: 7]..إلخ. والأول أولى، نعم هي مع كونها مقررة لما قبلها فيها رد على ذلك، وفي إيثار {وما كَانُواْ} على وما جعلناهم تنبيه على أن عدم الخلود والبقاء من توابع جبلتهم في هذه النشأة التي أشير إليها بقوله تعلى: {وما جعلناهم جَسَدًا}..إلخ. لا بالجعل المستأنف بل إذا نظرت إلى سائر المركبات من العناصر المتضادة رأيت بقاءها سويعة أمرًا غريبًا وانتهضت إلى طلب العلة لذلك ومن هنا قيل:
ولا تتبع الماضي سؤالك لم مضى ** وعرج على الباقي وسائله لم بقي

بل لا يبعد أن تكون الممكنات مطلقًا كذلك فقد قالوا: إن الممكن إذا خلى وذاته يكون معدوما إذ العدم لا يحتاج إلى علة وتأثير بخلاف الوجود؛ ولا يلزم على هذا أن يكون العدم مقتضى الذات حتى يصير ممتنعًا إذ مرجع ذلك إلى أولوية العدم وأليقيته بالنسبة إلى الذات، ويشير إلى ذلك على ما قيل قول أبي علي في الهيئات الشفاء للمعلول في نفسه أن يكون ليس وله عن علته أن يكون آيسًا، وقولهم باستواء طرفي الممكن بالنظر إلى ذاته معناه استواؤه في عدم وجوب واحد منهما بالنظر إلى ذاته، وقولهم علة العدم عدم علة الوجود بمعنى أن العدم لا يحتاج إلى تأثير وجعل بل يكفيه انعدام العلة لا أن عدم العلة مؤثرة في عدم المعلول ولعل في قوله صلى الله عليه وسلم: «ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن» إشارة إلى هذا فتدبر، وقوله تعالى: {ثُمَّ صدقناهم الوعد} قيل: عطف على ما يفهم من حكاية وحيه تعالى إلى المرسلين على الاستمرار التجددي كأنه قيل أوحينا إليهم ما أوحينا ثم صدقناهم الوعد الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي باهلاك أعدائهم، وقيل: عطف على {نُوحِى} السابق بمعنى أوحينا، وتوسيط الأمر بالسؤال وما معه اهتمامًا ما بالزامهم والرد عليهم؛ وقال الخفاجي: هو عطف على قوله تعالى: {أَرْسَلْنَا} ثم للتراخي الذكرى أي أرسلنا رسلًا من البشر وصدقناهم ما وعدناهم فكذا محمد صلى الله عليه وسلم فاحذروا تكذيبه ومخالفته فالآيات كما تضمنت الجواب تضمنت التهديد انتهى، وفيه تأمل، ونصب {الوعد} على نزع الخافض والأصل صدقناهم في الوعد ومنه صدقوهم القتال وصدقني سن بكره، وقيل: على ما أنه مفعول ثان وصدق قد تتعدى للمفعولين من غير توسط حرف الجر أصلًا.
وقوله تعالى: {ثم صدقناهم الوعد} قيل: عطف على ما يفهم من حكاية وحيه تعالى إلى المرسلين على الاستمرار التجديدي كأنه قيل أوحينا إليهم ما أوحينا ثم صدقناه الوعد الذي وعدناه في تضاعيف الوحي بإهلاك أعدائهم، وقيل عطف على {نوحي} [الأنبياء: 7] السابق بمعنى أوحينا، وتوسيط الأمر بالسؤال وما معه اهتمامًا بإلزامهم والرد عليهم، وقال الخفاجي: هو عطف على قوله تعالى: {أرسلنا} [الأنبياء: 7] وثم للتراخي الذكري أي أرسلنا رسلًا من البشر وصدقناهم ما وعدناهم فكذا محمد صلى الله عليه وسلم فاخذروا تكذيبه ومخالفته فالآيات كما تضمنت الجواب تضمنت التهديد انتهى، وفيه تأمل، ونصب {الوعد} على نزع الخافض والأصل صدقناهم في الوعد ومنه صدقوهم القتال وصدقني سن بكره، وقيل: على أنه مفعول ثان وصدق قد تتعدى للمفعولين من غير توسط حرف الجر أصلًا..
{فأنجيناهم وَمَن نشاء} أي من المؤمنين بهم كما عليه جماعة من المفسرين، وقيل منهم ومن غيرهم ممن تستدعي الحكمة إبقاءه كمن سيؤمن هو أو بعض فروعه بالآخرة وهو السر في حماية الذين كذبوه وآذوه صلى الله عليه وسلم من عذاب الاستئصال، ورجح ما عليه الجماعة بالمقابلة بقوله تعالى: {وَأَهْلَكِنا المسرفين} وذلك لحمل التعريف على الاستغراق والمسرفين على الكفار مطلقا لقوله تعالى: {وَأَنَّ المسرفين هُمْ أصحاب النار} [غافر: 43] النار ملازموها والمخلدون فيها ولا يخلد فيها عندنا إلا الكفار، ومن عمم أولًا قال: المراد بالمسرفين من عدا أولئك المنجين، والتعبير بمن نشاء دون من آمن أو من معهم مثلًا ظاهر في أن المراد بذلك المؤمنون وآخرون معهم ولا يظهر على التخصيص وجه العدول عما ذكر إلى ما في النظم الكريم والتعبير بنشاء مع أن الظاهر شئنًا لحكاية الحال الماضية. اهـ.

.قال القاسمي:

{وما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} أي: لا ملائكة. وقرئ بالياء وفتح الحاء: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} أي: العلماء بالتوراة والإنجيل: {إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي: أن الرسل بشر، فيعلموكم إن المرسلين لم يكونوا ملائكة. وفي الآية دليل على جواز الإستظهار بأقوال أهل الكتاب ومروياتهم، لحجّ الخصم وإقناعه.
تنبيه:
قال الرازيّ: فأما ما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية، في أن للعاميّ أن يرجع إلى فتيا العلماء، وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر- فبعيد. لأن هذه الآية خطاب مشافهة. وهي واردة في هذه الواقعة المخصوصة. ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين. انتهى.
ثم بيّن تعالى كون الرسل كسائر الناس، في أحكام الطبيعة البشرية، بقوله سبحانه: {وما جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} أي: جسدًا مستغنيًا عن الطعام، بل محتاجًا إلى ذلك لجبر ما فات بالتحليل كما قال تعالى: {وما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20]، وفي هذا التعريف الربانيّ عن حال المرسل، أكبر رادع لأولئك المنزوين عن الناس المتصيدين به قلوب الرعاع والعامة والحمقى ومن لا يزن عند ربه جناح بعوضة. إذ يرون تناول الطعام في المحافل وتكثير سواد الناس في المجامع والخروج للأسواق لقضاء الحاجات، من أعظم الهوادم لصروح الاعتقاد فيهم. فتراهم يأنفون من شراء حوائجهم بأيديهم، وهو السنة. ومن المشي بالأسواق، وهو المأذون فيه. ومن إجابة الدعوة، وهي واجبة، لأوهام في أنفسهم شيدوها. ومحافظة على السمعة حموا جانبها. فتبًّا لهم من قوم مبتدعين، يعبدون قلوب الخلق ولا يعبدون الله. ويريدون حالة فوق عليه رسل الله. وما ذلك إلا لله. فما أجرأهم على منازعة الجبار! وما أصبرهم على النار! وقوله تعالى: {وما كَانُوا خَالِدِينَ} أي: في الدنيا، بل كانوا يعيشون ثم يموتون كما قال تعالى: {وما جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} (34)، وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عزّ وجلّ. تنزل عليهم الملائكة بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه. وكونهم بشرًّا في تمام النعمة الإلهية. وذلك ليتمكن المرسل إليهم من الأخذ عنهم والانتفاع بهم. إذ الجنس أميل إلى الجنس.
{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} أي: في غلبتهم على أعدائهم: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، {فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نشاء} أي: من أتباعهم ومن قضت الحكمة بإبقائه: {وَأَهْلَكِنا الْمُسْرِفِينَ} أي: المجاوزين الحدود في الكفر. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نشاء وَأَهْلَكِنا الْمُسْرِفِينَ (9)}.
بين جل وعلا في هذه الآيات: أنه أرسل الرسل إلى الأمم فكذبوهم، وأنه وعد الرسل بأن لهم النصر والعاقبة الحسنة، وأنه صدق رسله ذلك الوعد فأنجاهم. وأنجى معهم ما شاء أن ينجيه.. والمراد به من آمن بهم من أممهم، وأهلك المسرفين وهم الكفار المكذبون للرسل، وقد أوضح هذا المعنى في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله تعالى: {حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نشاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين} [يوسف: 110]، وقوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام} [إبراهيم: 47]، وقوله تعالى: {فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلَكِن الظالمين وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ} [إبراهيم: 13-14]، وقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171-173]، وقوله تعالى: {وَلَمَا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} [هود: 58] الآية، وقوله تعالى: {فَلَمَا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} [هود: 66] الآية، وقوله: {وَلَمَا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} [هود: 94] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. والظاهر أن صدق تتعدى بنفسها وبالحروف، تقول: صدقته الوعد، وصدقته في الوعد. كقوله هنا: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد}، وقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} [آل عمران: 152]. فقول الزمخشري {صدقناهم الوعد} كقوله: {واختار موسى قومه سبعين رجلًا} لا حاجةة إليه، والله أعلم. والإسراف: مجاوزة الحد في المعاصي كالكفر، ولذلك يكثر في القرآن إطلاق المسرفين على الكفار. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)}.
عطف جواب على جواب. والمقصود من هذا إبطال مقصودهم من قولهم {هل هذا إلا بشر مثلكم} [الأنبياء: 3] إذا أرادوا أنه ليس بأهل للامتياز عنهم بالرسالة عن الله تعالى، فبيّن خطأهم في استدلالهم بأن الرسل الأولين الذين اعترفوا برسالتهم ما كانوا إلا بشرًّا وأن الرسالة ليست إلا وحيًا من الله لمن اختاره من البشر.
وقوله: {إلا رجالًا} يقتضي أن ليس في النساء رسلًا وهذا مجمع عليه. وإنما الخلاف في نبوءة النساء مثل مريم أختتِ موسى ومريمَ أم عيسى.
ثم عرّض بجهلهم وفضح خطأهم فأمرهم أن يسألوا أهل الذكر، أي العلم بالكتب والشرائع السالفة من الأحبار والرهبان.
وجملة {فاسألوا أهل الذكر}..إلخ. معترضة بين الجمل المتعاطفة.
وتوجيه الخطاب لهم بعد كون الكلام جرى على أسلوب الغيبة التفاتٌ، ونكتته أن الكلام لما كان في بيان الحقائق الواقعة أعرض عنهم في تقريره وجعل من الكلام الموجه إلى كل سامع وجُعلوا فيه معبّرًا عنهم بضمائر الغيبة، ولما أريد تجهيلهم وإلجاؤهم إلى الحجة عليهم غُيِّر الكلام إلى الخطاب تسجِيلًا عليهم وتقريعًا لهم بتجهيلهم.
{وما جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وما كَانُوا خَالِدِينَ (8)}.
الجسد: الجسم الذي لا حياة فيه، وهو يرادف الجثة.
هذا قول المحققين من أئمة اللغة مثل أبي إسحاق الزجاج في تفسير قوله تعالى: {فأخرج لهم عجلًا جسدا} [طه: 88].
وقد تقدم هناك، ومنه قوله تعالى: {ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدًا} [ص: 34].
قيل هو شِق غلام لا روح فيه ولدته إحدى نسائه، أي ما جعلناهم أجرامًا غير منبثة فيها الأرواح بحيث تنتفي عنهم صفات البشَر التي خاصتها أكل الطعام، وهذا رد لما يقولونه {ما لهذا الرسول يأكل الطعام} [الفرقان: 7] مع قولهم هنا {هل هذا إلا بشر مثلكم} [الأنبياء: 3].
وذكر الجسد يفيد التهكم بالمشركين لأنهم لما قالوا {ما لهذا الرسول يأكل الطعام} [الفرقان: 7]، وسألوا أن يأتي بما أرسل به الأولون كان مقتضى أقوالهم أن الرسل الأولين كانوا في صور الآدميين لَكِنهم لا يأكلون الطعام وأكل الطعام من لوازم الحياة، فلزمهم لما قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام أن يكونوا قائلين بأن شأن الرسل أن يكونوا أجسادًا بلا أرواح، وهذا من السخافة بمكانة.
وأما قوله: {وما كانوا خالدين} فهو زيادة استدلال لتحقيق بشريتهم استدلالًا بما هو واقع من عدم كفاءة أولئك الرسل كما هو معلوم بالمشاهدة، لقطع معاذير الضالين، فإن زعموا أن قد كان الرسل الأولون مخالفين للبشر فماذا يصنعون في لحاق الفناء إياهم.
فهذا وجه زيادة {وما كانوا خالدين}.
وأُتي في نفي الخلود عنهم بصيغة {ما كانوا} تحقيقًا لتمكن عدم الخلود منهم.
{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نشاء وَأَهْلَكِنا الْمُسْرِفِينَ (9)}.
{ثم} عاطفة الجملة على الجمل السابقة فهي للترتيب الرتبي.
والمعنى: وأهَمُّ مما ذكر أنّا صدقناهم الوعد فأنجيناهم وأهلَكِنا الذين كذبوهم.
ومضمون هذا أهم في الغرضين التبشير والإنذار.
فالتبشيرُ للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن الله صادِقُه وعده من النصر، والإنذارُ لمَن ماثَل أقوامَ الرسل الأولين.
والمراد بالوعد وعدم النصرَ على المكذبين بقرينة قوله تعالى: {فأنجيناهم} المُؤذننِ بأنه وعد عذاببٍ لأقوامهم، فالكلام مسوق مساق التنويه بالرسل الأولين، وهو تعريض بوعيد الذين قالوا {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 5].
وفي هذا تقريع للمشركين، أي إنْ كان أعجبكم ما أتى به الأولون فسألتم من رسولكم مثله فإن حالكم كحال الذين أرسلوا إليهم فترقبوا مثلَ ما نزل بهم ويترقب رسولكم مثل ما لقي سلفه.
وهذا كقوله تعالى: {قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين في سورة} [يونس: 102] وانتصب الوعد بـ {صدقناهم} على التوسع بنزع حرف الجر.
وأصل الاستعمال أن يقال: صدقناهم في الوعد، لأن صدَق لا يتعدى إلا إلى مفعول واحدٍ.
وهذا الحذف شائع في الكلام ومنه في مثل هذا ما في المثل صَدقَني سِنَّ بَكْرِه.
والإتيان بصيغة المستقبل في قوله تعالى: {من نشاء} احتباك، والتقدير: فأنجيناهم ومَن شئنا ونُنْجِي رسولنا ومن نشاء منكم، وهو تأميل لهم أن يؤمنوا لأن من المكذبين يوم نزول هذه الآية مَن آمنوا فيما بعد إلى يوم فتح مكة.
وهذا من لطف الله بعباده في ترغيبهم في الإيمان، ولذلك لم يقل: ونهلك المسرفين، بل عاد إلى صيغة المضي الذي هو حكاية لما حلّ بالأمم السالفة وبقي المقصود من ذكر الذين أهلكوا وهو التعريض بالتهديد والتحذير أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك مع عدم التصريح بالوعيد.
والمسرفون: المفْرِطون في التكذيب بالإصرار والاستمرار عليه حتى حل بهم العذاب. اهـ.